Total Pageviews

Friday, January 30, 2009

الجانب المظلم من القمر


إنها المرة الأولى التي أستعرض فيها كتابا ، حيث أنه يمكن إعتباري قاريء جيد لا ناقد جيد ولا أكثر من ذلك ، ولكن هذا الكتاب تحديدا استوقفني فور صدوره على الرغم من أنني قرأت أغلب محتواه من قبل على مدار سبع سنوات تقريبا ! والغريب في الأمر أنني لم أهتم بمحتوى الكتاب حينما كان على صورته الرقمية ، ما إن تمت طباعته وأصبح كتابا من لحم ودم حتى بدأت أندهش من كوني لم أنبهر من قبل بما يكتبه ميشيل .
الكتاب بعنوان الجانب المظلم من القمر ، مجموعة قصصية من إصدار الهيئة العامة لقصور الثقافة وهو للكاتب الدكتور ميشيل حنا والذي كان من الحتمي أن أتحدث عنه أثناء عرضي للكتاب والذي يحمل جزءا كبيرا من شخصية ميشيل ، وميشيل صديق قديم ، عملنا سويا منذ عام ألفين وواحد تقريبا بالعديد من المجلات ويمكن اعتبارنا مثالا رائعا للوحدة الوطنية الهلال مع الصليب ههههههه ، وهو شخصية سوداوية تحمل قدرا كبيرا من الكآبة ويستهويه الفكر السادي الذي يتناول الجانب المظلم أو الوجه القبيح من الحياة ويجعلها إلى الكوابيس أقرب . تحمل قصصه قدرا هائلا من البشاعة ولكن بالرغم من ذلك لن يمكنك أبدا لومه ، فما يتناوله من أفكار لا يعد شيئا يذكر من واقع الحياة الأكثر بشاعة إن تحدثنا بصدق مطلق . والغريب مع ميشيل أنه كاتب متميز للغاية ولا يبدو عليه ذلك فهو شخصية هادئة جدا وخجولة ، وأكثر ما يميزه هو التفرد والإتيان بما لم يسبق لأحد أن حاول التفكير فيه أساسا ، في إحدى تدويناته يصف شعوره حينما عثر على بونبوناية في جيب بنطاله الذي لم يرتديه منذ فترة طويلة ! هذا الحادث البسيط أو الذي يمكن للبعض إعتباره تافها وغير ذي قيمة أمكن لميشيل أن يجد به حالة خاصة تستحق الكتابة عنها وهو كاتب بارع بالفعل ، ربما هي العبقرية ، هكذا ينظر ميشيل للأشياء من منظور دائما يختلف عن نظرتنا نحن للأشياء البسيطة ويجد بها فلسفة خاصة ، وهو أحد الجوانب المميزة لمجموعته القصصية .
في قصة البقية في حياتك يتناول موقفا ساخرا عبثيا مريرا مدهشا على قدر عجيب من الغرابة يجعلك تتسائل : من أين يأتي بهذه الأفكار ؟ أم أن هذه مواقف شخصية يسردها على لسانه هو ؟! ، وفي القصة يحكي عن شخص ذهب لقضاء واجب العزاء بالكنيسة ولكنه يكتشف وبعد أن جلس بين المعزين أن سوستة بنطاله مفتوحة ! وطوال القصة يحاول البطل أن يتدارك هذا الموقف شديد الإحراج ويصف بالتفصيل محاولات البطل المسكين لغلق السوستة دون أن يشعر به أحد ، هذه القصة تحديدا تعتبر أفضل ما يعبر عن أسلوب ميشيل الذي ينتمي إلى السخرية السوداء ، سخرية مريرة وربما كئيبة وقاسية ، سخرية لا تهدف إلى إضحاكك ولكنها تكشف لك عن الجانب المرير من الحياة كما يراها ميشيل . ففهي هذه القصة لم يعد الموت على أي قدر يذكر من الأهمية أمام سوتستة بنطال مفتوحة لأحد المعزين ! هل تشعرون بما أشعر به ولا أستطيع التعبير عنه ؟
قصة نعيق الغراب يصعب الحديث عنها ، وكذلك سقوط أزهار البرقوق ، بالفعل حاولت التعليق عل أي منهما وفشلت ، وهذا في صالح ميشيل بالمناسبة ! حيث أنني مقتنع أنك إذا فشلت في أن تلخص فكرة قصة فتأكد أنها إما سخيفة جدا أو عبقرية جدا تجعلك تخشى من مجرد التعليق عليها فتظلمها وتحصر معناها في جملتين ، كل ما يمكن قوله أن أبطال ميشيل في قصصه يعيشون في عالم خاص يشبه عالمنا كما نعرفه ولكن من زاوية أخرى أو من منظور آخر ، الجانب المظلم من القمر هو عنوان عبقري لهذه المجموعة ولا أعرف إن كان ميشيل قد أدرك أنه يعبر وبشدة عن أفكاره أم أن هذا تم بفعل عقله الباطن .
بالمناسبة فإن الدكتور علاء الأسواني شديد الإعجاب بقصة نعيق الغراب واستطاع أن يجد بها مالم يكن ميشيل نفسه يعرفه أو يقصده ، وهي واحدة من الدلائل التي تشير إلى عبقرية ميشيل التي يفرزها لا إراديا، حيث أن قصصه تحمل ما يمكن تفسيره على مستويات عديدة ربما تدهش ميشيل نفسه وتجعله يضحك ويقول أنه لم يقصد ذلك !
قصة الخطأ الكبير تتحدث عن نكبة سفر الرجال إلى دول الخليج تاركين أسرهم هنا ينعمون بما يرسلونه من أموال النفط ، قصة تشعرك بالغيظ وأنت تقرأ عن ماهيتاب التي ملأت البانيو باللبن كي تحصل على بشرة ناعمة ونضرة ولكنها تقززت من رائحة اللبن فتخلصت منه بالبالوعة ، وعن أيمن الذي جعله الفراغ والعيشة الرغدة يبحث عن المتعة في تجربة كل شيء وأي شيء مهما كان سخيفا ، وفي النهاية نجد أن الطفلين لم يهتما بموعد وصول والدهما الذي هو في الأساس سبب ما يعيشان فيه من نعيم وصل إلى درجة العبث ، وهو طابع نجده في رواية يوتوبيا التي صدرت بعد ذلك حيث المدينة الرغدة المرفهة التي وصل سكانها إلى مرحلة الاستهانة بالحياة سواء حياتهم أو حياة الآخرين .
أما نبضات أخيرة قبل الفناء ، فهي مذكرات جثة متعفنة ! ، جثة تحكي قصتها منذ أن قتلت وحتى تحولت إلى تراب ، قصة غريبة جدا ولا أعرف ما الهدف منها ولكنها مدهشة .
أعتقد أنه أسوأ عرض لكتاب في التاريخ ، العرض الذي تحدثت فيه عن عدم مقدرتي لتقديم عرض جيد !
من الآخر
إذا أردت أن تقرأ شيئا غريبا وجديدا وغير مسبوق كمذاق الشاي بالكيوي أو القهوة بالليمون فعليك بقصص ميشيل حنا وتعرّف على هذا العالم المقبض الكئيب البشع والذي بالرغم من ذلك لا يمكنك إلا أن تنبهر به وتعجب به بل وتدمنه .

Monday, January 26, 2009

جاسوس فيصل

يبدو انني تأخرت كثيرا هذه المرة ، ولكنها شرنقة الإكتئاب اللعينة ، وحتى لا أتأخر أكثر من ذلك إخترت لكم هذا الموضوع الذي لم ينشر من قبل ، أو بمعنى آخر تم رفضه لسبب لا أعرفه :) تذكرت لسبب ما أيام الصحافة والمرمطة وحمدت الله انني لم أعمل بهذا المجال طويلا ولكنني إحتفظت بعدد كبير من المقالات سأعمل على نشرها من حين لآخر
وإلكم احد الموضوعات الطريفة كبداية
في انتظار تعليقاتكم

-------------
بلا فخر , كنت أنا بطل القصة هذه المرة .
وكانت (الوشوشة) التي دارت بين ركاب عربة الميكروباس تتناولني بشخصي , وعلي نحو مريب جعل السائق يختلس لي النظرات عبر مرآة السيارة من حين لآخر .

والقصة هي أنني كنت أعد لموضوع صحفي جديد وقررت استغلال إختناقات شارع الملك فيصل وتوقف المرور به في التقاط بعض الصور بالكاميرا الرقمية الصغيرة التي لا تفارق حقيبتي أينما ذهبت , هذا حين لاحظني طفل صغير لم يتجاوز العاشرة من عمره يجلس بالمقعد الخلفي بجوار والدته ويهمس لها بصوت مسموع :
ــ ماما ماما , الراجل ده معاه كاميرا وبيصور
ــ بيصور ايه ده ؟
ــ مش عارف !
شعرت بنظراتها تتركز علي , ربما بسبب شكلي الملفت وشعري الطويل ولحيتي الصغيرة المحيطة بفمي مما يجعلني أبدو أجنبيا , بينما مال الطفل الي الأمام لينظر من فوق كتفي الي الكاميرا , ساد صمت لا يقطعه سوى (الكلاكسات) والسباب المتبادل بين سائقي عربات الميكروباس , ثم حان وقت التقاط الصورة التالية بعد أن توقف المرور ثانية , وبالرغم من أن الوقت كان نهارا وانني لم أكن أستخدم (الفلاش) الا أنني شعرت وكأنني قد أطلقت قنبلة أو صاروخا , فقد انتفض الطفل وجذب والدته من جلبابها بعنف وهمس بكلمات هي إلي الصراخ أقرب :
ــ إلحقي يا ماما , الراجل بيصور تاني
ــ آه تبقي الحكاية كده ... تلاقيه جاسوس ... وحيكون ايه غير جاسوس ... أصلهم ضربوا لبنان وجايين يصوروا مواقع هنا عشان يضربوها ... مستشفيات ومدارس أطفال ... الكفرة !
في لحظة واحدة وجدت نفسي متهما بالكفر والتجسس أيضا ! شعرت بالتوتر ولم أدر ما افعله . هل أعتبر الأمر مجرد سذاجة إمرأة بسيطة وطفلها أم آخذ حذري كي لا يتطور الموقف وأجد نفسي متهما حقا بالتجسس ؟
مضت دقائق أخري وأنا أدرس الموقف ثم وجدت أن الأمر لا يستحق كل هذا القلق ... فلأستكمل التصوير واذا بدأ أحدهم في الاستفسار عما افعل فسأخبره ببساطة أنني صحفي .

وعبر زجاج السيارة قمت بتثبيت يداي لالتقاط صورة أخري لهدف علي الجانب الآخر من الطريق حين وجدت الأم تهمس لجارتها :
ــ شايفة ياختي الراجل ابو شعر طويل ده ؟
ــ ماله ؟
ــ ده جاسوس !
ــ جاسوس ؟ معقول الكلام ده ؟
ــ آه والله ياختي , حتى شوفي معاه كاميرا وبيصور بها المستشفيات والمدارس .
زاد افراز الأدرينالين بدمي وشعرت أنني موشك علي صدام حالا ... سوف تتهشم هذه الكاميرا علي رأسي اذا لم أكن قد تحولت الي لحم مفري بالفعل . انتظرت أن يحدث شيئا أو أن يبدأ أحد في الاستفسار عن طبيعة عملي الا أن هذا لم يحدث !
ــ طب لو كده بقي نوقف العربية ونشوف حكايته ايه
ــ لا ياختي واحنا مالنا .. نورط نفسنا ليه في مصيبة ؟
ــ علي رأيك !
لقد أصبحت أنا نفسي مصدرا لخوف هؤلاء البسطاء مما جعلني اهدأ قليلا وأحاول دراسة الموقف .
انا جاسوس الآن . وهناك سيدتين وطفل صغير يعلمان بهذا الأمر وبالرغم من ذلك لا يحرك أحد ساكنا خوفا من المشاكل , ربما لو إنضم لهم رجل لاختلف الموقف بالتأكيد .
فكرت في مغامرة وشعرت بذلك التقلص بأحشائي , لن أهدأ الا بعد أن اعرف نهاية هذا الموقف الأسطوري وليكن ما يكون . أخرجت (الموبايل) وقمت باختلاق مكالمة وهمية متحدثا بصوت منخفض ولكنه لا يزال مسموعا لركاب السيارة الذين بدأوا بالفعل في الانتباه لي :
ــ يديعوت أحرونوت , لاهوتي بات شيفع ياكوف بنيامين , ليفي مستشفيات بوم بوم , كوهين شالوم حرائيم حنانيا .
لوهلة شعرت بأنني أحمق انسان في الوجود , فما هي الا لحظات وتنهال الأيادي والأرجل وسلال الخضروات علي رأسي , وقبل أن أفكر في اي شيء آخر ساد صمت عجيب ! , ثم بدأ شاب في الهمس الي السيدة أم الطفل
ــ جاسوس اسرائيلي
ــ ما انا عارفة .. ده قاعد بيصور من الصبح
ــ الله يحرقهم بجاز كلهم
ــ مصيبة تاخدهم الكفرة .
أحدنا مجنونا ... إما أنا أو هم !
لقد اقنعتهم بما لا يدع مجالا للشك أنني جاسوس ولكن لم يفكر أي شخص في الحديث معي أو التحقق من هويتي تمهيدا لتسليمي الي أقرب قسم بوليس .
بالطبع لم أكن لأرقص طربا لو حدث ذلك ولكن عدم حدوث هذا في حد ذاته كان أمرا بالغ الغرابة .
وحتى آخر لحظة قبل نزولي من السيارة كنت انتظر حدوث مصيبة ولكنها لم تحدث .هبطت الي أرض الوطن في سلام وقبل ان اغادر السيارة التقطت صورة أخرى للركاب .

Thursday, January 08, 2009

فن الكاريكاتير

منذ فترة طويلة وانا أحلم بتقديم مجموعة من الحلقات أشرح فيها مفهوم فن الكاريكاتير من وجهة نظري الشخصية ، لم تكن النتيجة إحترافية كما تمنيت ولكن على الأقل أعتقد أنها كانت قريبة إلى حد كبير من الصورة التي تخيلتها
إليكم المقدمة والحلقة الأولى من البرنامج إن صح تسميته بذلك ، ربما كانت تدوينة مرئية ليس أكثر
في انتظار رأيكم
تحياتي





Saturday, January 03, 2009

المريض \ قصة قصيرة


ــ بتحبها ؟
يقولها وهو يطالع ملفا ضخما ، جفنيه مرتخيين في هدوء ، وإن كانت عيناه تلمعان في حماسة واضحة من وراء عويناته الطبية للحظات وهو ينظر إلى الشخص الجالس أمامه في إنكسار .
ــ بتحبها ؟
يطول الصمت ، يضع الملف على الطاولة المستطيلة التي تفصلهما ، يعقد زراعيه فوق صدره وينظر إلى سقف الغرفة بعد أن يلقي بعويناته في حركة ملولة فوق الملف ، فتستقر على وضع يتيح له التسلية باختلاس النظر إلى صورة مريضه المنبعجة عبرها بشكل كاريكاتوري .
ــ ماهو عشان أقدر أساعدك لازم تجاوبني
ــ ما إنت عارف يا دكتور
ــ المهم إن إنت اللي تكون عارف
تهتز ساق المريض أسفل الطاولة ، وترتعش أصابع يديه بحركة لا إرداية ، يفرك ذقنه المشعثة ، ينظر بعيدا إلى نقطة وهمية بجانبه متحاشيا نظرات الطبيب الباردة ، يشعر بالعري الكامل ، ويزداد إحساسه بالعجز .
ــ أيوة بحبها
يفلت الطبيب أحد ذراعيه وينقر على الطاولة بإصبعه نقرتين ويعيد عقد ذراعيه فوق صدره مرة أخرى .
ــ من فضلك بص لي وإنت بتجاوب .
تحتبس الدموع بعينا المريض ، يهز رأسه للحظات ، ويلتفت ناظرا له بكراهية ، ولكن المؤسف أن النظرة حملت بالرغم من ذلك قدرا هائلا من التوسل والضعف .
يبتسم الطبيب ، يلتقطت قلمه الفاخر من جيب معطفه ، ويسحب ورقة يضعها أمامه ، يعيد ارتداء عويناته ويبدأ في السؤال بنبرة أكثر برودا وإن حاول ــ بقدر ما تتيحه طبيعته العملية ــ أن يكون ودودا :
ــ طيب ، قوللي يا أحمد ، تفتكر لو إرتبًطِت بشخص تاني ، حتفضل برضه تحبها ؟
تفلت دمعة ، فيسارع بمسحها بإصبعه مجيبا بصوت مرتعش
ــ أيوة
ــ طيب وإيه شعورك لما تتخيل إنها معاه ، بين أحضانه ؟
ــ ....
ــ حتفضل برضه تحبها ؟
تحمر أنفه ويبدأ في النهنهة بصوت مكتوم ، يشيح بوجهه للحظات ثم يعاود النظر إلى عينا الطبيب المتسائلة
ــ أيوة حفضل أحبـ ....
يقاطعه الطبيب بحركة فجائية وهو يظهر صورة كان قد وضعها مقلوبة على مقربة من الملف ويقربها من وجهه .
ــ وكده ؟ لسة بتحبها ؟
ينظر إلى الصورة مصدوما ، تتسع عيناه في فزع ، ويمد يدا مرتعشة للامساك بها ، يفقد السيطرة على مشاعره وينخرط في نوبة من البكاء الهيستيري ، يتجاهله الطبيب تماما لدقائق وهو يشعل لفافة تبغ ويزفر دخانها بلامبالاه مراقبا مريضه وهو يمزق الصورة بعد أن عجز عن مواصلة النظر فيها .
ــ قل لي حاسس بإيه ؟ بتفكر في إيه ؟ الانتقام ؟
ــ لأ
يصرخ بها ، فيسحب الطبيب نفسا آخر من سيجارته مبتسما ، يدون شيئا ما بالورقة ويعاود السؤال :
ــ يعني لسة بتحبها ؟
ــ أيوة ، أيوة بحبها
يمسح خيطا من المخاط سال من أنفه وامتزج بدموعه وقد أدرك الطبيب نجاحه في جعل مريضه يفضي بكل ما يعتمل في صدره من مشاعر بلا خجل ، ربما كانت رغبة في التخفيف عن ذلك الثقل الجاثم على قلبه ، وربما كان تبريرا لمظاهر ضعفه التي تجاوزت حد المهانة الكاملة لكرامته .
ــ أيوة بحبها وحفضل أحبها ، كتير كانت بتصدني ، كانت بتعاملني بلامبالاه ، باحتقار ، أي حد عنده كرامه كان حيسيبها من أول لحظة تبين رفضها ليه ، إنما أنا ... أنا مقدرتش .. مقدرتش يا دكتور .. مش قادر .
ينفض الطبيب رماد سيجارته ويسأل بنفس النبرة الباردة :
ــ طيب تقدر تقوللي إنت بتحبها ليه ؟
تعاوده نوبة البكاء ، يدفن رأسه بصدره وهو ينتفض ، ويجيب بصوت اختلط بلعابه :
ــ مش عارف .. والله العظيم ما أعرف ليه .. أوقات كتير كنت بحس إني مريض بيها ، عمري ما كنت أتخيل إني أحب واحدة زيها ، إنما ده اللي حصل ، حاولت أنساها ، عملت أي حاجة وكل حاجة ممكن تتخيلها عشان أنساها ، مافيش فايدة ، كل يوم أتعب أكتر من اللي قبله ، خسرت وظيفتي ، وفلوسي ، وصحتي ، واتحبست عشان حاولت أكلمها بالعافية وأنا بالمنظر ده ، شايفني يا دكتور ولا مش شايفني ؟ شايف قدامك بنى آدم ؟ ها ؟ وفي الآخر ، وفي الآخر رضيت إني أكون فار تجارب .
يقف بحركة مباغتة ويلقي بمقعده فيصتدم بأرضية الغرفة صارخا واللعاب يتطاير من فمه
ــ أنا أهو قدامك إعمل فيا اللي إنت عاوزه ، إنشالله تقتلني ، ياريت تقتلني وتريحني من اللي أنا فيه ده ، أنا تعبت ، تعبت ، تعبت والله العظيم يا دكتور ، تعبت حتى من عجزي وانا مش عارف أنتحر ، شايف ده يا دكتور ؟ شايف ؟ قطعت شرايين إيدي مرتين وفي كل مرة كنت بخاف أموت وأبعد عنها ، خلصّني بقى ، خلصّني أبوس إيدك .
* * *
يطفأ الطبيب سيجارته ويرد بلهجة آمرة هادئة وكأنه كان يتوقع رد الفعل السابق هذا .
ــ طب هات الكرسي ده وأقعد
يضع كفه على الورقة المستقرة أمامه ويزيحها بطول ذراعه تجاه مريضه الذي عاود الجلوس منكمشا ، يضع فوقها القلم
ــ إمضي هنا
يمد يده على الفور نحو القلم يلتقطه فيقاطعه الطبيب ممسكا بمعصمه
ــ بس لازم تعرف إنك بكده موافق على التجربة مهما كانت النتائج .
ينظر إلى الطبيب بثبات ، وبأصابع مرتجفة يضع رأس القلم على الورقة ، فترتخي أصابع الطبيب القابضة على معصمه ، لم يكن بحاجة إلى قراءة أي شيء ، فأي شيء في الدنيا لن يكون أسوأ مما هو فيه حتى وإن كان يمضي للشيطان عهدا .
* * *
مضت خمس دقائق منذ أن أفاق على صوت جهاز المراقبة ، لم يشعر بأي تغيير ، فقط هذا الصداع الذي يدق رأسه بألف مطرقة وعشرات الأسلاك والانابيب المنبعثة من جسده .
ــ حاسس بإيه ؟
ــ ولا حاجة
ــ بتحبها ؟
ــ مش عارف
ــ لسة نفسك تشوفها ؟ تكلمها ؟ تقعد معاها ؟
يصمت لفترة ، يشعر بأنه عاجز عن التفكير في الأمر أو إختبار مشاعره تجاهها ، هل فقد حقا أي شعور نحوها ؟ ولكنه إكتشف فجأة أنه عاجز حتى عن تذكر ملامحها .
ــ حاسس إنك مرتاح كده ؟
ــ ........
يجلس الطبيب على طرف الفراش ، وللمرة الأولى يصبح ودودا حقا بعد أن أصبحت تجربته على مشارف النجاح ، فيقول وهو ينزع عن جسد مريضه الأنابيب والأسلاك :
ــ تعرف يا أحمد ؟ لما حاولت أعرض أبحاثي في المجال ده قالوا عليا مجنون ، لكن صدقني ، الحب بتاعك ده مجرد خلل في كيمياء المخ ، دي الحقيقة اللي ماحدش عاوز يعترف بيها ، كل الأعراض اللي مريت بيها واللي مر بيها أي حد بيحب بالشكل ده من ساعة ما إتخلق الانسان تؤكد فكرتي ، ايه معنى إنك تتعلق بشكل هيستيري بشخص يختلف عنك في كل شيء ؟ شخص من المفروض إنك تكون بتكرهه في الأساس أو حتى على الأقل يمر عليك زي مئات الناس اللي بتشوفهم وبتتعامل معاهم كل يوم وتنساهم قبل ما تنام ، عارف قصة فان جوخ اللي قطع ودنه عشان يديها هدية لحبيبته ، حبيبته اللي كانت بتبيع جسمها للي يدفع ؟ روميو وجولييت ؟ مجنون ليلي ؟ كلهم مجانين زي قيس ، وعلاج الجنان ده أبسط مما تتخيله ، لكن تقول إيه في الطبيعة البشرية اللي ماعندهاش استعداد تواجه أمراضها ومشاكلها بصدق وبوضوح ؟ مهما كانت المشاعر دي متعارضة مع العقل والمنطق يفضل الانسان يضحك على نفسه ويكفّر أي واحد يقول له الحقيقة ، عشان هو مش عاوز يسمعها ، مش عاوز يصدقها ، مش عاوز يتعايش معاها .
يزيح الغطاء عن جسده ، ويحاول التماسك واقفا ، فيمسك الطبيب بذراعه يعينه على الوقوف ، يتوجه نحو النافذة المطلة على حديقة المستشفى فيقوده الطبيب ويزيح الستائر، ينظر من خلالها إلى قرص الشمس .
ــ أنا .. أنا فعلا ما بقتش أحبها يا دكتور
ترتسم السعادة على وجه الطبيب ويضع ذراعه على كتفه في حميمية
ــ مش حاسس ناحيتها بأي حاجة ، كإنها واحدة غريبة بشوفها لأول مرة ، فاكرها زي ما فاكر بنت حلوة قعدت جنبي في المترو ، بس فاكر كل لحظة كنت بتعذب فيها ، فاكر كل كلمة حاولت أقولها ومعرفتش ، فاكر كل حالة ضعف وانكسار مريت بيها وأنا بحاول أقولها بحبك ، فاكر آخر مرة رسمت فيها صورتها ، وكل لحظة حسيت فيها بسعادة وأنا عايش على أمل إنها تحبني زي ما كنت بحبها ، تعرف يا دكتور أنا حاسس بإيه دلوقتي ؟ .... حاسس إني ماعنديش حاجة تستاهل إني أعيش على شانها .
دفع الطبيب بحركة فجائية ، وفي لحظة واحدة كان قد فتح زجاج النافذة وقفز منها ، وقبل أن تنسحق عظامه من قوة الارتطام كان قد أدرك أنه لم يكن يحبها فقط ،
بل كان يحب الحياة من خلالها .
تمت

Counter