أعتقد انها المرة الأولى التي أحكى فيها هذه القصة المدهشة .. ربما لم أجد لها مناسبة من قبل كي أحكيها ، ولكن اعتقد أنه قد حان الوقت الآن لتدوينها .
والدي هو الدكتور حمدي محمد أحمد ابراهيم من أسرة شديدة الفقر .. جدي كان صانع للطرشي وعمل كبقال بالأجرة ثم كغفير في شركة ميلك لاند .. وأسرة والدي مكونة من 5 أفراد يعيشون في غرفة واحدة في بيت قديم ببين السرايات ، وقد زرت هذه الغرفة منذ فترة ولم أصدق انها بهذا الضيق أبدا .
وبالرغم من الفقر الشديد استطاع والدي الإلتحاق بكلية طب قصر العيني (القاهرة) والفضل في ذلك كان للثورة التي سمحت للفقراء دخول الكليات بلا واسطة ، ولكن يظل الفقر حائلا بين والدي والدراسة فحتى مع مجانية التعليم كانت الكلية مكلفة أيضا ، كان أبي يحتاج لكتب ومراجع قبل اختراع تصوير المستندات .. وكان الفقر يجعله عاجزا على حضور السكاشن والمحاضرات بحذاء بالي ممزق وقميص مرقع .
وحينما طفح بوالدي الكيل قرر كتابة رسالة لجمال عبد الناصر رئيس الجمهورية ! يبدو أن الجنون وراثة في عائلتنا
ومخلص الرسالة هو كالتالي :-
السخرية من قول رئيس الجمهورية بأنه "فتح أبواب الجامعات للجميع فئات الشعب" ووصف والدي ذلك انه فتح الباب الحديدي فقط بالمعنى الحرفي للعبارة ، ولكن الجامعات لا تزال أبوابها مغلقة فعليا أمام الفقراء وأن مجانية التعليم مجرد كذبة ونكتة سخيفة للضحك على عقول البسطاء .
بالإضافة إلى بعض الاتهامات الأخرى شديدة اللهجة يغلب عليها طابع التهكم والسخرية
وأنهى رسالته بتهديد جمال عبد الناصر بالقتل والجملة كانت : " حقتلك يا جمال يا عبد الناصر وحقتل نفسي "
------------------------------------------
يقولون أن الفقير لم يعد لديه شيء ما يخسره خاصة حينما يصل الفقر إلى مرحلة عدم القدرة على شراء حذاء أو كتاب أو قميص أو حتى قلم جاف . لهذا لم يعد لوالدي شيء ما يخسره .
ما حدث بعد أيام هو أن الجيران شاهدوا مجموعة من الرجال بالبدل الرسمية يسألون عن منزل \ غرفة محمد أحمد ابراهيم .. سألوا عنه وعن ابنه حمدي واخواته .. حينما سألهم الجيران : انتوا عاوزين ايه من حمدي ؟ .. أجابوا : بنسأل عنه عشان هو متقدم لبنت من عيلتنا .. فكان ردهم وهو يحدقون بملابسهم الفاخرة : وهو حمدي ده مقامكم يا بهوات ؟ ده مش لاقي ياكل .. ده شحات .. وانتوا مقامكم عالي مايصحش .
بعدها بيوم كان والداي بالكلية يجلس بمحاضرة بالصف الأخير وهو يداري خرق ما بقميصة على ما يبدو ، فجأة اقتحم بعض الرجال المحاضرة وسألوا عن الطالب حمدي محمد .. أدرك والدي انها النهاية .. واقتادوه مباشرة إلى سيكرتير رئيس الجمهورية ! .. وعرضوا عليه خطابه واستجوبوه لساعات طويلة .. بالطبع والدي كان في قمة الرعب ويبدو انه ادرك متأخرا فداحة التصرف المجنون الذي قام به في لحظة طيش .. لم يكن يدرك أن الخطاب سيصل إلى الرئاسة بالفعل ، كان يكتبه كنوع من التدوين كما نفعل نحن الان على المدونات والفيس بوك .. مجرد كلمتين محشورين في الزور .. مجرد فضفضة .. اما أن يصل الخطاب بالفعل إلى الرئاسة فهذا أمر يفوق الخيال . ولكن هذا لم يكن أقصى ما فاق الخيال بهذه القصة .. فبعد ساعات من الاستجواب قال له السكيرتير :
طب ياللا عشان تخش جوّه
ــ جوّه فين حضرتك ؟
ــ تخش للريس
ــ ريّس مين سيادتك ؟
ــ الرئيس جمال عبد الناصر يابني
يا نهار اسد ومهبب ومنيل ؟ .. رئيس الجمهورية ؟ والذي هدده أبي بالقتل ؟ والذي سخر منه وتهكم عليه ؟.
من الصعب وصف حالة والدي وقتها .. انا نفسي حينما اتخيل هذه الواقعة ارتجف رعبا فما بالك ببطل القصة نفسه .
وأدخلوا والدي على الرئيس !
الانطباع الأول كما يقول كل من قابل الرئيس جمال عبد الناصر أن له كاريزما غير عادية ، هاديء ومحترم ومهيب
ــ ايه يابني اللي انت كاتبهولي ده ؟
ــ ........
ــ عاوز تقتلني ليه ؟
ــ .......
ــ ايه مشكلتك ؟
ــ .....
ــ يابني ما تنطق انا مش فاضيلك
هنا بكى والدي (أقل واجب) وأخذ يشرح له ظروفه والتي يعرفها الرئيس مسبقا من خلال التحريات . وبعد ان انتهى والدي من الكلام :-
ــ ماشي يا دكتور .. ليك دلوقتي سكن في المدينة الجامعية عشان تعرف تذاكر .. وليك تاخد كل الكتب بتاعتك من الجامعة مجانا .. ودي بطاقات تقدر تروح بيها وتشتري هدوم من عمر أفندي .. وده مرتب شهري لحد ما تخلص دراستك في الكلية .. وياللا روح ذاكر وما تضيعش وقت
.
وفي عدد مجلة صباح الخير ( للأسف لا أذكر التاريخ وسأضيفه قريبا كتحديث ) تم نشر التالي بقلم الرئيس جمال عبد الناصر
إلى ابننا حمدي ابراهيم ( وهو اختصار لاسم والدي ) .. اتمنى لك مستقبل باهر وليكن عملك في خدمة الفقراء والمحتاجين .. إمضاء الرئيس جمال عبد الناصر
التاريخ التقريبي هو قبل وفاة جمال عبد الناصر بعامين . ولازلت أبحث عن هذا العدد بأرشيف مجلة صباح الخير .
انتهت القصة
ولا تعليق من جانبي
----------------------------
التحديث
الواقعة حدثت سنة 1968 ونشرت القصة بمجلة صباح الخير في موضوع بعنوان : مآثر جمال عبد الناصر سنة 1970